كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ إِنَّ كُلَّ هَذَا لَمْ يَعِظْ يَهُودَ خَيْبَرَ، وَلَمْ يَزْجُرْهُمْ عَنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْكَيْدِ لَهُ، بَلْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمُ السَّعْيُ لِتَأْلِيفِ الْأَحْزَابِ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ لِقِتَالِهِ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانُوا سَبَبَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ الَّتِي زُلْزِلَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا زِلْزَالًا شَدِيدًا كَمَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَسَنَحَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فُرْصَةُ الِاسْتِرَاحَةِ مِنْ شَرِّهِمْ بَعْدَ صُلْحِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَظْفَرَهُ اللهُ بِهِمْ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ لِحُصُونِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ. وَبِذَلِكَ زَالَتْ قُوَّةُ الْيَهُودِ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ كُلِّهَا.
هَذَا وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْيَهُودِ مِمَّا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ بِإِجْلَاءِ مَنْ بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا رَاضِينَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَدْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَنْ نَصَحَ لِلْبَاقِينَ مِنْهُمْ قَبْلَ إِجْلَائِهِمْ بِبَيْعِ أَمْوَالِهِمْ وَإِحْرَازِ أَثْمَانِهَا، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا- وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْيَهُودِ» فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا» فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ: «ذَلِكَ أُرِيدُ» ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «اعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» اهـ.
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ أُرِيدُ» مَعْنَاهُ أُرِيدُ اعْتِرَافَكُمْ بِأَنَّنِي بَلَّغْتُ دَعْوَةَ رَبِّي لَا أَنْ أُكْرِهَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ إِيذَائِي إِيَّاكُمْ بِالْجَلَاءِ لابد أَنْ يَكُونَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ بِبُلُوغِ الدَّعْوَةِ وَعَدَمِ إِجَابَتِهَا، وَقَوْلُهُ: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» مَعْنَاهُ أَنَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا وَحُكْمًا وَلِرَسُولِهِ تَنْفِيذًا لِلْحُكْمِ وَتَصَرُّفًا فِي الْأَرْضِ بِأَمْرِهِ.
وَبَعْدَ هَذِهِ الْعِبَرِ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَبِأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، بَلْ لِهَذَا سِرٌّ ظَهَرَ لِلْعِيَانِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ أَوْضَحُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ بِلَفْظِ: «إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْحِجَازِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الْأُرْوِيَّةِ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ» إِلَخْ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَّى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ (أَوَّلِهَا): «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا» وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: لَا يَبْرُكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَامِرِ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الَّتِي أَخْرَجَ عُمَرُ مِنْهَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمُخَالِيفِهَا، فَأَمَّا الْيَمَنُ فَلَيْسَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. اهـ. أَيْ لَيْسَ مِنَ الْجَزِيرَةِ الْمُرَادَةِ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ الْمُنَفِّذُ لِلْوَصِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ لَمْ يُخْرِجِ الْيَهُودَ مِنْهُ، فَبِهَذَا خَصُّوا لَفْظَ الْجَزِيرَةِ بِالْحِجَازِ، وَمِنْهُ أَرْضُ خَيْبَرَ فَإِنَّ عُمَرَ أَجْلَاهُمْ مِنْهَا. وَيَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ وَلَيْسَ هَذَا الْمَحِلُّ مَحِلَّ تَحْقِيقِهِ.
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ عَقَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمُ الْعُهُودَ الَّتِي أَمَّنَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، فَقَدْ خَانُوهُ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَسَاعَدُوا عَلَيْهِ أَعْدَاءَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، ثُمَّ تَبِعُوهُمْ إِلَى مَهْجَرِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ صَارَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحِجَازِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ حَرْبًا لَهُ، الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ سَوَاءٌ، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الْحَرْبِ الَّتِي كَانَتْ أَمْرًا وَاقِعًا لَمْ يَكُونُوا هُمُ الْمُحْدِثِينَ لَهُ وَلَا الْبَادِئِينَ بِالْعُدْوَانِ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي الْمُصَارَعَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الْإِعْدَادُ تَهْيِئَةُ الشَّيْءِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالرِّبَاطُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الدَّابَّةُ كَالْمِرْبَطِ (بِالْكَسْرِ) وَرِبَاطُ الْخَيْلِ حَبْسُهَا وَاقْتِنَاؤُهَا- وَرَابَطَ الْجَيْشُ: أَقَامَ فِي الثَّغْرِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ، ثُمَّ سَمَّى الْإِقَامَةَ فِي الثَّغْرِ مُرَابَطَةً وَرِبَاطًا. اهـ. مِنَ الْأَسَاسِ.
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَجْعَلُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ (الَّتِي عَلِمُوا أَنْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا لِدَفْعِ الْعُدْوَانِ وَالشَّرِّ، وَلِحِفْظِ الْأَنْفُسِ وَرِعَايَتِهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْفَضِيلَةَ) بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) إِعْدَادُ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ لَهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ.
(وَثَانِيهِمَا) مُرَابَطَةُ فُرْسَانِهِمْ فِي ثُغُورِ بِلَادِهِمْ وَحُدُودِهَا، وَهِيَ مَدَاخِلُ الْأَعْدَاءِ وَمَوَاضِعُ مُهَاجَمَتِهِمْ لِلْبِلَادِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمَّةِ جُنْدٌ دَائِمٌ مُسْتَعِدٌّ لِلدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا فَاجَأَهَا الْعَدُوُّ عَلَى غِرَّةٍ، قَاوَمَهُ الْفُرْسَانُ، لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِتَالِ، وَإِيصَالِ أَخْبَارِهِ مِنْ ثُغُورِ الْبِلَادِ إِلَى عَاصِمَتِهَا وَسَائِرِ أَرْجَائِهَا، وَلِذَلِكَ عَظَّمَ الشَّارِعُ أَمْرَ الْخَيْلِ وَأَمَرَ بِإِكْرَامِهَا. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا اللَّذَانِ تُعَوِّلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ الدُّوَلِ الْحَرْبِيَّةِ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهِ الْفُنُونُ الْعَسْكَرِيَّةُ وَعَتَادُ الْحَرْبِ إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ، بَلْ لَمْ تَكُنْ تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَتَخَيَّلُهَا الْأَفْكَارُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ إِعْدَادَ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ يَخْتَلِفُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ بِهِ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِحَسْبِهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» قَالَهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ الْحَجُّ عَرَفَةُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ فِي بَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَمْيَ الْعَدُوِّ عَنْ بُعْدٍ بِمَا يَقْتُلُهُ أَسْلَمُ مِنْ مُصَاوَلَتِهِ عَلَى الْقُرْبِ بِسَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ أَوْ حَرْبَةٍ، وَإِطْلَاقُ الرَّمْيِ فِي الْحَدِيثِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُرْمَى بِهِ الْعَدُوُّ مِنْ سَهْمٍ أَوْ قَذِيفَةِ مَنْجَنِيقٍ أَوْ طَيَّارَةٍ أَوْ بُنْدُقِيَّةٍ أَوْ مِدْفَعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ هَذَا مَعْرُوفًا فِي عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللَّفْظَ يَشْمَلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ يَقْتَضِيهِ، وَلَوْ كَانَ قَيَّدَهُ بِالسِّهَامِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُقَيِّدْهُ، وَمَا يُدْرِينَا لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُطْلَقًا، لِيَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ لِأُمَّتِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِحَسْبِ مَا يُرْمَى بِهِ فِيهِ- وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي الْحَثِّ عَلَى الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ؛ لِأَنَّهُ كَرَمْيِ الرَّصَاصِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُسْتَطَاعِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ كَسَائِرِ خِطَابَاتٍ التَّشْرِيعِ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا وَارِدًا فِي سَبَبٍ مُعَيَّنٍ. وَمِنْ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ صُنْعُ الْمَدَافِعِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْبَنَادِقِ وَالدَّبَّابَاتِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدِ وَإِنْشَاءُ السُّفُنِ الْحَرْبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا الْغَوَّاصَاتُ الَّتِي تَغُوصُ فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صُنْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ قُوَى الْحَرْبِ بِدَلِيلِ: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَعْمَلُوا الْمَنْجَنِيقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا. وَكُلُّ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْمَعِيشَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَصِنَاعَاتِ آلَاتِ الْقِتَالِ.
وَقَدْ أَدْرَكَ بَعْضَ هَذِهِ الْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَقَالَ بَعْدَ إِيرَادِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الرَّمْيِ مَا نَصَّهُ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّمْيَ بِالنِّبَالِ الْيَوْمَ لَا يُصِيبُ هَدَفَ الْقَصْدِ مِنَ الْعَدْوِ، وَلِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الرَّمْيَ بِالْبُنْدُقِ وَالْمَدَافِعِ وَلَا يَكَادُ يَنْفَعُ مَعَهُمَا نَبْلٌ، وَإِذَا لَمْ يُقَابَلُوا بِالْمِثْلِ عَمَّ الدَّاءُ الْعُضَالُ، وَاشْتَدَّ الْوَبَالُ وَالنَّكَالُ، وَمَلَكَ الْبَسِيطَةَ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَالَّذِي أُرَاهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى تَعَيُّنِ تِلْكَ الْمُقَابَلَةِ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُمَاةِ الدِّينِ، وَلَعَلَّ فَضْلَ ذَلِكَ الرَّمْيِ يَثْبُتُ لِهَذَا الرَّمْيِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ فِي الذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا أَرَى مَا فِيهِ مِنَ النَّارِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ إِلَّا سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَلَا يَبْعُدُ دُخُولُ مِثْلِ هَذَا الرَّمْيِ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
وَأَقُولُ: قَدْ جَزَمَ الْعُلَمَاءُ قَبْلَهُ بِعُمُومِ نَصِّ الْآيَةِ، قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْهَا الرَّمْيُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ، وَكُلَّ مَا هُوَ آلَةٌ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الرَّمْيِ وَأَنَّهُ كَحَدِيثِ الْحَجُّ عَرَفَةُ وَأَنَا لَا أَدْرِي سَبَبًا لِالْتِجَاءِ الْآلُوسِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَى الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَاكْتِفَائِهِ بِدُخُولِ هَذِهِ الْآلَاتِ فِي عُمُومِ نَصِّ الْآيَةِ بِعَدَمِ الِاسْتِبْعَادِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُعَمَّمِينَ فِي عَصْرِهِ حَرَّمُوا اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْآلَاتِ النَّارِيَّةِ بِشُبْهَةٍ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ الَّذِي مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَا أَرَى مَا فِيهِ مِنَ النَّارِ إِلَخْ.
نَعَمْ: إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الرَّحْمَةِ قَدْ مَنَعَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الظَّالِمُونَ وَالْجَبَّارُونَ مِنَ الْمُلُوكِ بِأَعْدَائِهِمْ، كَأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْمُلْعُونِينَ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، وَلَكِنْ مِنَ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ أَنْ يُعَدَّ حَرْبُ الْأَسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ لِلْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يُحَارِبُونَنَا بِهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ دِينَنَا دِينُ الرَّحْمَةِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَمِلَ قَتْلَهُمْ إِيَّانَا بِهَذِهِ الْمَدَافِعِ، وَأَلَّا نُقَاتِلَهُمْ بِهَا رَحْمَةً بِهِمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا فِي التَّعَامُلِ فِيمَا بَيْنَنَا أَنْ نَجْزِيَ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا عَمَلًا بِالْعَدْلِ، وَجَعَلَ الْعَفْوَ فَضِيلَةً لَا فَرِيضَةً فَقَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [42: 40 و14] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [16: 126] أَفَلَا يَكُونُ مِنَ الْعَدْلِ بَلْ فَوْقَ الْعَدْلِ فِي الْأَعْدَاءِ أَنْ نُعَامِلَهُمْ بِمِثْلِ الْعَدْلِ الَّذِي نُعَامِلُ بِهِ إِخْوَانَنَا أَوْ بِمَا وَرَدَ بِمَعْنَى الْآيَةِ فِي بَعْضِ الْآثَارِ، قَاتِلُوهُمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَكُمْ بِهِ؟ وَهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْعَدْلِ فِي حَالِ الْحَرْبِ، نَعَمْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ النَّهْيُ عَنْ تَحْرِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ بِالنَّارِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ الْحَرْبِيَّةِ كَإِحْرَاقِ سُفُنِ الْحَرْبِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءً بِالْمِثْلِ، وَالْجَزَاءُ أَوْلَى.
وَأَمَّا قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} فَمَعْنَاهُ: أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ عَتَادِ الْقِتَالِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْجُنْدُ، وَمِنَ الْفُرْسَانِ الْمُرَابِطِينَ فِي ثُغُورِكُمْ وَأَطْرَافِ بِلَادِكُمْ حَالَةَ كَوْنِكُمْ تُرْهِبُونَ بِهَذَا الْإِعْدَادِ- أَوِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالرِّبَاطِ- عَدُوَّ اللهِ الْكَافِرِينَ بِهِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَعَدُوَّكُمُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ وَيُنَاجِزُونَكُمُ الْحَرْبَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. وَالْإِرْهَابُ: الْإِيقَاعُ فِي الرَّهْبَةِ، وَمِثْلُهَا الرَّهَبُ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْخَوْفُ الْمُقْتَرِنُ بِالِاضْطِرَابِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَكَانَ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَمَنْ وَالَاهُمْ هُمُ الْجَامِعِينَ لِهَاتَيْنِ الْعَدَاوَتَيْنِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفِيهِمْ نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [60: 1] وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِيهِمْ أَيْضًا مَنْ وَالَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ كَبَنِي قُرَيْظَةَ. وَقِيلَ: لَا، وَإِيمَانُ هَؤُلَاءِ بِاللهِ وَبِالْوَحْيِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ وَالَوْهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ صلى الله عليه وسلم هُمُ الْمَعْنِيُّونَ أَوْ بَعْضُ الْمَعْنِيِّينَ بِقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} أَيْ: وَتَرْهَبُونَ بِهِ أُنَاسًا مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الْمَعْرُوفِينَ أَوْ مِنْ وَرَائِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ أَيْ: لَا تَعْلَمُونَ الْآنَ عَدَاوَتَهُمْ، أَوْ لَا تَعْرِفُونَ ذَوَاتِهِمْ وَأَعْيَانَهُمْ بَلِ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَعَزَاهُ الْبَغَوِيُّ إِلَى مُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ أَيْضًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَهْلُ فَارِسَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَاوَتُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَظْهَرَتِ الْأَيَّامُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَاوَتَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ وَمِنْ بَعْدِهِ كَالرُّومِ، وَعَجِيبٌ مِمَّنْ ذَكَرَ الْفُرْسَ فِي تَفْسِيرِهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّومَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَشْمَلُ مَنْ عَادَى جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، كَالْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ وَقَاتَلُوهُمْ أَوْ أَعَانُوا أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ غَرِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «هُمُ الْجِنُّ وَلَا يَخْبِلُ الشَّيْطَانُ إِنْسَانًا فِي دَارِهِ فَرَسٌ عَتِيقٌ» قَالَ الْآلُوسِيُّ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَيْضًا وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ. اهـ.
وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِيَارِهِ لَهُ بِظَنِّهِ أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُنْكَرَةِ عَنِ الْمَجْهُولِينَ يَصْرِفُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ شَوْكَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، إِلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الْخُرَافِيِّ الَّذِي حَاصِلُهُ أَنَّ اقْتِنَاءَ الْخَيْلِ الْعِتَاقِ يُرْهِبُ الْجِنَّ وَيَحْفَظُ النَّاسَ مِنْ خَبَلِهِمْ، كَأَنَّهَا تَعَاوِيذُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْجُنُونِ، لَا عُدَّةٌ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْآيَةِ، وَمِنْ سَائِرِ السِّيَاقِ الَّذِي هُوَ فِي قِتَالِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ وَلَا مَتْنُهُ. اهـ.